تونس: قراءة أولية في مشروع الدستور الجديد
نُشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية الصادر ليلة 30 جوان 2022 ليتم تصحيح محتواه بعد مضي أسبوع من نشره وفقا للأمر الرئاسي عدد 607 الصادر في 08 جويلية 2022. ويمثل هذا المشروع مبادرة قدمت من رئاسة الجمهورية التونسية ليتم عرضها على الاستفتاء الشعبي المقرر ليوم 25 جويلية 2022 للقطع مع المنظومة الدستورية التي أرساها دستور 2014.
ويعتبر وضع الدساتير من المحطات التاريخية الهامة التي من شأنها التأثير في حياة الشعوب، نظرا للدور المحوري والجوهري الذي يلعبه الدستور لضمان نظام حكم ديمقراطي يدعم حقوق الافراد وحرياتهم. فهو النص الأعلى داخل الدولة والذي وجب على كل السلطات احترامه عند ممارسة صلاحياتها وهو النص الذي يحتكم اليه الفرد كلما حاولت السلطة التعدي على حقوقه وحرياته المكفولة بالدستور.
تهدف هذه الورقة الى تقديم قراءة تقييمية أولية في محتوى مشروع الدستور من حيث ضمانه للحقوق والحريات والنظام السياسي المزمع اعتماده ومدى قدرة هذا الأخير على إرساء نظام حكم ديمقراطي.
الحقوق والحريات في مشروع الدستور: تنوع التكريس ومحدودية الضمانات
تنوع التكريس
يعتبر تكريس الحقوق والحريات في صلب نص الدستور من أولى الضمانات، ذلك أن دسترتها تمتعها بالعلوية مما يفرض على كل السلط داخل الدولة الالتزام باحترامها وعدم مخالفتها عند وضع القوانين والتراتيب.
ولقد كرس مشروع الدستور موضوع الاستفتاء جملة الاحكام المتعلقة بالحقوق والحريات في بابه الثاني الذي مثل إعادة تكريس لأغلب الحقوق والحريات التي نص عليها دستور 2014 وعملت الصكوك الدولية على ضمانها.
تنوعت الحقوق والحريات في مشروع الدستور، وقد أقر الفصل الأول والفصل الثاني من باب الحقوق والحريات مبدأ ضمان الدولة للحقوق والحريات الفردية والعامة لكل المواطنين والمواطنات على أساس المساواة وعدم التمييز. فنجد صلب مشروع الدستور تكريسا للحقوق المدنية (حرمة الجسد، منع التعذيب، حق الملكية ...) والحقوق السياسية (الحق في الانتخاب، الحق في الترشح) وبعض الحقوق القضائية (قرينة البراءة، المحاكمة العادلة) والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الحق في العمل، الحق في الصحة، الحق في التعليم، الحق في الثقافة والابداع) والحقوق البيئية (الحق في بيئة سليمة).
كما كرّس مشروع الدستور جملة من الحريات الفردية (حرية الضمير، حرية المعتقد، حرية الرأي والفكر والتعبير...) ومن الحريات العامة (حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات، حرية الاجتماع والتظاهر...).
أبقى مشروع الدستور كذلك على بعض الحقوق الخاصة بالنساء، كما أضاف حقوقا جديدة لبعض الفئات كالأطفال المتخلى عنهم ومجهولي النسب وكذلك المسنين.
ولئن كان هذا التكريس الدستوري مهمّا وأساسيا، الا أنه غير كفيل بضمان احترام هذه الحقوق من الخروقات التي يمكن ان تطالها إذا لم يكن مرفقا بجملة من الضمانات الأساسية والآليات الحمائية.
محدودية الضمانات
أدرج مشروع الدستور بعض الضمانات والآليات التي من شأنها ان تحمي الحقوق والحريات الا ان أغلب هذه الضمانات كانت محدودة.
ضوابط عملية تقييد الحقوق والحريات بين ضبابية المرجعيات واقتصار دور القضاء
يعتبر اخضاع تقييد الحقوق والحريات الدستورية الى جملة من الضوابط والشروط من أهم الآليات الضامنة لحماية الحقوق والحريات من تعسف السلطة. وقد خصص مشروع الدستور في هذا الإطار مادة جامعة تنظم عملية تقييد كل الحقوق والحريات التي جاء بها مشروع الدستور ويكون بذلك قد حافظ على المكسب الذي أتى به دستور 2014 في هذا المجال واعتمد بذلك منهجا متطورا مكرسا في بعض الدول الديمقراطية.
يفرض مشروع الدستور من خلال فصله 55 [1] ألا يكون هناك حد وتقييد للحقوق والحريات الدستورية إلا:
- بمقتضى قانون أي نص صادر عن البرلمان المنتخب.
- لضرورة يقتضيها مجتمع ديمقراطي،
- لأهداف معينة وهي حماية حقوق الغير او لمقتضيات الامن العام او الدفاع الوطني او الصحة العمومية.
كما أوجب ان لا تمس القيود من جوهر الحق وان تكون مبررة ومتناسبة مع موجباتها. كما فرض مبدأ عدم التراجع عن الحقوق المكتسبة وأوكل مهمة حمايتها من كل انتهاك الى الهيئات القضائية.
وعلى الرغم من أهمية هذا الفصل والضمانات التي يكرسها لحماية فعلية للحقوق والحريات إلا ان تفعيل هذا الفصل يبقى رهين عدة عوائق ضمّنها مشروع الدستور، وأبرزها:
انعدام الإشارة في المشروع الى احترام حقوق الانسان في كونيتها من ناحية وتكريس المرجعية الإسلامية من ناحية أخرى
وهو ما يفتح باب تأويل رجعي ومحافظ. حيث غابت في نص الدستور وخاصة في توطئته وبابه الأول المتعلق بالأحكام العامة أي إشارة الى مسألة ضمان حقوق الانسان في كونيتها وشمولياتها وهو ما يعد من قبيل مخالفة المعايير الدولية في هذا المجال.
ولئن نص مشروع الدستور في الباب المتعلق بالوظيفة التشريعية على علوية المعاهدات الدولية الموافق عليها من مجلس نواب الشعب على القوانين وتكون بالتالي المعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق والحريات ملزمة للبرلمان . الا ان اعتماد مشروع الدستور صلب فصله الخامس تحديد انتماء البلاد الى "الامة الإسلامية" والزامها بالعمل على تحقيق "مقاصد الإسلام" من شأنه ان يستهدف أسس المرجعية الدولية في محتوى الحقوق والحريات ويفتح الباب لتأويلات رجعية ومحافظة في هذا المجال.
تحول القضاء في مشروع الدستور من سلطة مستقلة الى وظيفة
وقد حاد مشروع الدستور في ما يتعلق بمكانة القضاء عن جملة المكتسبات التي عمل دستور 2014 على ضمانها للسلطة القضائية. فحسب مشروع الدستور القضاء لم يعد سلطة مستقلة بذاتها بل أصبح وظيفة مستقلة وفق مقتضيات الفصل 127.
ويعد هذا التصور الذي يكرسه مشروع الدستور انتكاسة في ما يتعلق بمبدأ الفصل بين السلط وما يمنحه من تمييز لدور السلطة القضائية في علاقتها بالسلطتين السياسيتين. وقد عمد مشروع الدستور على نكران الدور المحوري الذي وجب ان تتعهد به السلطة القضائية في إقامة العدل، وضمان علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات.
تقليص دور المحكمة الدستورية
تم احداث محكمة دستورية جديدة في مشروع الدستور الا ان الأسس الدستورية التي وقع اعتمادها من حيث تركيبتها ومهامها لا تمكّنها من القيام بدور فعّال في ضمان علوية الدستور وفرض احترامه على كل السلط.
من حيث التركيبة ، أقر الدستور بان المحكمة الدستورية تتكون من 9 قضاة يتم تعيينهم بأمر من رئيس الجمهورية وهو الذي يختارهم وفق معيار الأقدمية ولم يضبط مشروع الدستور مدة العضوية في المحكمة الدستورية.
ويعتبر هذا المنهج المعتمد في الدستور غير ضامن لاستقلالية المحكمة الدستورية ويجعل من تركيبتها تركيبة هشة وغير مستقرة. فمعيار التعيين المعتمد وهو معيار الأقدمية وكذلك قاعدة التعويض الآلي لمن بلغ سنّ التقاعد بمن يليه في الأقدمية [2] سيجعل من المحكمة الدستورية، حسب عبارة بعض المعلقين "ناديا لقضاة على أبواب التقاعد"، الأمر الذي سيؤثّر على استقرار تركيبة المحكمة وتبعا لذلك على إمكانية تأسيسها لفقه قضاء دستوريّ مستقّر. فضلا عن ذلك، فإنّ غياب تنوّع اختصاصات أعضاء المحكمة الدستورية وقصر تركيبتها على القضاة وإقصاء بقية المختصين في القانون، لا سيما الأساتذة الجامعيين، من شأنه أن يضعف جودة الرقابة التي تمارسها. كما يخشى أن يكون تأويل المحكمة الدستورية لأحكام الدستور تأويلا محافظا نظرا للطابع المحافظ الذي يتميّز به القضاة التونسيون، خاصّة الأقدمون منهم.
من حيث المهام ، عُهدت الى المحكمة الدستورية مهمة مراقبة دستورية بعض النصوص (المعاهدات، تعديل الدستور وضمان ما لا يجوز تعديله، الأنظمة الداخلية للمجلسين التشريعيين) وخاصة القوانين مما يمكنها من تسليط الرقابة بالأساس على التشريعات الصادرة عن البرلمان.
تم اعتماد الرقابة القبلية على القوانين أي قبل دخولها حيز النفاذ وهي رقابة تُمارس عن طريق دعوى يرفعها رئيس الجمهورية او ثلاثين نائب من مجلس نواب الشعب او نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم دون سواهم.
كما كرس مشروع الدستور الرقابة البعدية وإمكانية الدفع بعدم دستورية قانون نافذ وتتعهد المحكمة الدستورية بذلك بناء على إحالة من المحاكم.
ولا تمكّن طرق الرقابة المكرسة في مشروع الدستور المواطن من إمكانية الطعن المباشر أمام المحكمة الدستورية في القوانين التي تنتهك حقوقه وحرياته مما يجعل هذه الآلية الحمائية نسبية.
حذف مشروع الدستور كل الصلاحيات التي تُمكّن المحكمة الدستورية من تسليط الرقابة على سلطة رئيس الجمهورية رغم هيمنة هذه المؤسسة في النظام السياسي المعتمد. وتم التخلي عن دور المحكمة الدستورية في مراقبة حالة الاستثناء التي أصبحت غير مقيدة في الزمن و"لا تزول الا بزوال أسبابها." كما تم إلغاء دورها في إعلان وإقرار حالة الشغور في منصب رئاسة الجمهورية وتحصين أعمال رئيس الجمهورية وتأويلاته للدستور حتى في حالة الخرق الجسيم للنص واعتباره هو الضامن لاحترام الدستور ولا تعلوه في ذلك سلطة أخرى.
الغاء الهيئات الدستورية المستقلة
تم التخلي في مشروع الدستور الجديد عن الباب المتعلق بالهيئات الدستورية المستقلة والتي كانت وفق دستور 2014 تعمل على دعم الديمقراطية وتتمتع بالاستقلالية حتى يتسنى لها القيام بدورها التقريري والتعديلي في مجالات مهمة (هيئة الاعلام السمعي البصري، هيئة حقوق الانسان، هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد).
لم يبق مشروع الدستور في هذا المجال الا على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات دون تحديد كيفية ضبط تركيبتها.
يعتبر هذا التوجه تراجعا في ما يتعلق بالآليات الدستورية لضمان الحكم الديمقراطي، حيث تتحول المجالات التي كانت من اختصاص الهيئات الدستورية الى مجلات من اختصاص السلطة التنفيذية.
تأسيس مشروع الدستور لنظام سياسي رئاسوي
على العكس ممّا يدّعيه المدافعون عن النظام السياسي الذي يكرسّه مشروع الدستور المزمع عرضه على الاستفتاء الشعبي يوم 25 جويلية 2022 من أنّه نظام رئاسيّ يقطع مع تشتيت السلطة التنفيذية بين مكونين اثنين يتنازعانها، فإنّ النظام السياسي الذي وقع عليه الخيار يحيد عن النظام السياسي الرئاسيّ الذي يتميّز بالفصل إلى مدى بعيد بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والتوازن السّلبي بينهما الذي يتجسّد من خلال عدم إمكانية حلّ البرلمان من قبل الرئيس ولا سحب الثقة من الرئيس وإرغامه على الاستقالة من قبل البرلمان. فمن خلال الأحكام التي تنظّم السلطات السياسية في الدّولة من حيث تكوّنها، وظائفها والعلاقات بينها، نتبيّن أنّ النظام السياسي المقترح قد أخذ من تقنيات النظام البرلماني ومن تقنيات النظام الرئاسي ما يدعم مكانة رئيس الجمهورية ويجعل منه المحرّك الأساسيّ للحياة السياسية. وتبرز المكانة المتميّزة لرئيس الجمهورية من خلال الاختصاصات الممتّدة التّي أسندها له مشروع الدستور. لكن في مقابل الصلاحيات الواسعة التّي يتمتّع بها فإنّه لا يمكن مساءلة رئيس الجمهورية لا سياسيّا ولا جزائيّا.
رئيس جمهورية ذو اختصاصات واسعة
يتمّتع رئيس الجمهورية باختصاصات ممتّدة تجعل منه لا المحرّك الأساسي للسلطة التنفيذية فقط، بل الفاعل الرئيسي والمهيمن على النظام السياسي برمتّه. فبالرجوع إلى مشروع الدستور، نلاحظ أنّه يجمع بين الصلاحيات الراجعة للرئيس في النظام الرئاسي وتلك التي تدخل ضمن اختصاصات رئيس الحكومة في النظام البرلمانيّ.
هيمنة الرئيس على الوظيفة التنفيذية
حسب الفصل 87 من مشروع الدستور: " رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة.". ويعدّ هذا الفصل مجرد استنساخ للفصل 37 من دستور غرّة جوان 1959 مع تغيير مصطلح سلطة بوظيفة وتسمية وزير أوّل برئيس حكومة[3]. فالرئيس هو الذي يتحمّل كامل أعباء الوظيفة التنفيذية ويقتصر دور الحكومة ورئيسها على مساعدة رئيس الجمهورية.
انطلاقا من الإشكاليات التي أفرزها تطبيق دستور 2014 على مستوى تفتيت السلطة بين مكوني السلطة التنفيذية و ما نتج عن ذلك من صدام بين رئيس الجمهورية من ناحية ورئيس الحكومة من ناحية ثانية ، جاء الخيار متمثلا في أن يكون لرئيس الجمهورية الدور المحوري في الاضطلاع بالوظيفة التنفيذية وهو يختار بملء إرادته حكومة يرأسها رئيس حكومة لمساعدته في مهامّه (الفصل 101) و هو في اختياره لرئيس الحكومة غير مقيد بالتركيبة الحزبية للبرلمان بما أنّ الحكومة لا تخضع لتزكية البرلمان كما أنّ تحريك مسؤوليتها السياسية يستوجب تضافر شروط عسيرة كما سنأتي على ذلك لاحقا. كما ينهي رئيس الجمهورية مهّام الحكومة أو عضو منها تلقائيا أو باقتراح من رئيس الحكومة (الفصل 102). والحكومة مسؤولة عن تصرّفها أمامه (الفصل 112).
يتوّلى رئيس الجمهورية حسب مشروع الدستور ضبط السياسة العامّة للدّولة وتحديد اختياراتها الأساسية، في حين أنّ الحكومة هي مجرّد جهاز تنفيذي إذ تسهر على تنفيذ السياسة العامّة للدّولة طبق التوجيهات والخيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية (الفصل 111 من مشروع الدستور). وهو يمارس السلطة الترتيبية العامّة، ينفذ القوانين (الفصل 104)، ويتمتّع بحقّ ردّ مشاريع القوانين (الفصل 103).
تدخّل رئيس الجمهورية في الوظيفة التشريعية
أسند مشروع الدستور المزمع عرضه على الاستفتاء الشعبي يوم 25 جويلية 2022 الوظيفة التشريعية إلى برلمان مكوّن من مجلسين : مجلس أوّل ينتخب من الشعب انتخابا عامّا مباشرا يسمّى مجلس نوّاب الشعب ومجلس ثان هو المجلس الوطني للجهات والأقاليم يتّم انتخاب أعضائه بطريقة غير مباشرة عبر تقنية التصعيد من المجالس الجهوية. وينحصر الاختصاص التشريعي للمجلس الثاني في مجالي ميزانية الدّولة ومخطّطات التنمية الجهوية والإقليمية والوطنية.
كما مكّن مشروع الدستور السلطة التنفيذية من المساهمة في الوظيفة التشريعية آخذا بذلك بتقنيات النظام البرلماني الذي يتميّز بفصل مرن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تخوّل لكلّ منهما التدخّل بقدر ما في الصلاحيات الراجعة للسّلطة المقابلة. إلاّ أنّه في حين تكون الحكومة، في الأنظمة البرلمانية الصرفة، هي المستفيدة من الفصل الوظيفي المرن، فإنّ مشروع الدّستور قد أفرد رئيس الجمهورية بحقّ التدخّل في الوظيفة التشريعية وذلك بأساليب مختلفة. إذ يتمتّع الرئيس بحقّ المبادرة التشريعية ولمشاريعه أولوية النظر.
كما يمكن لرئيس الجمهورية أن يتدخّل في الوظيفة التشريعية عن طريق مراسيم وهي نصوص يتّخذها رئيس الجمهورية في مجال القانون. ويمكن لرئيس الجمهورية اتّخاذ مراسيم في ثلاث حالات متنوّعة: مراسيم بناء على تفويض من مجلس نوّاب الشعب (الفصل 70)، مراسيم خلال عطلة مجلس نوّاب الشّعب (الفصل 73)، ومراسيم في حالة حلّ مجلس نوّاب الشعب (الفصل 80).
كما خوّل مشروع الدستور لرئيس الجمهورية التدخّل في الوظيفة التشريعية عن طريق عرض مشاريع قوانين على الاستفتاء إذ ينّص الفصل 97 على أنّه لرئيس الجمهورية أن يعرض على الاستفتاء أيّ مشروع قانون يتعلّق بتنظيم السلط العمومية أو يرمي إلى المصادقة على معاهدة يمكن أن يكون لها تأثير على سير المؤسّسات دون أن يكون كلّ ذلك مخالفا للدّستور.
اختصاصات محدودة الضمانات في حالة الاستثناء
يتمتّع رئيس الجمهورية باختصاصات استثنائية في حالة الخطر الداهم التي ينظمها الفصل 96 من مشروع الدستور وهو فصل عوّض الفصل 80 من دستور 2014 مع التقليص من الضمانات التي كان يوفّرها هذا الفصل والمتمثلة في أنّه بعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان التدابير الاستثنائية، وفي كلّ وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرّح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما. فحسب مشروع الدستور الجديد، يتمتّع رئيس الجمهورية بسلطة تقديرية مطلقة في اعتبار أنّ ظروفا ما تشكّل خطرا داهما يستوجب إعلان حالة الاستثناء. وهو يحدّد بكلّ حرية التدابير الضرورية التي تحتّمها الظروف الاستثنائية. كما يقدّر بملء إرادته توقيت زوال التدابير بزوال أسبابها.
رئيس جمهورية غير خاضع إلى المساءلة
يتمتّع رئيس الجمهورية، وفق مشروع الدستور، بحصانة جزائية وظيفية إذ لا يُسأل عن الأعمال التي قام بها في إطار آدائه لمهامه. ولم يتضّمن مشروع الدستور آلية تخوّل السلطة التشريعية مساءلة رئيس الجمهورية على غرار الفصل 88 من دستور 2014 الذي نظّم آلية إعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور.
على عكس ذلكـ، فإنّ الحكومة هي المسؤولة سياسيا أمام المجلسين المكونين للسلطة التشريعية وذلك بتوجيه لائحة لوم " إذا تبين لهما أنّها تخالف السياسة العامّة للدولة والاختيارات الأساسية المنصوص عليها بالدستور".
وتجدر الإشارة إلى أنّ مسؤولية الحكومة أمام البرلمان ليست تلك المتعارف عليها في الأنظمة البرلمانية. فالبرلمان لا يسحب الثقة من الحكومة بل يعارضها في مواصلة تحمّلها لمسؤولياتها إذا تبيّن للمجلسين أنّها تخالف السياسة العامّة للدولة والاختيارات الأساسية المنصوص عليها بالدستور. أي أنّ سبب المعارضة لا يتمثّل في عدم وجاهة السياسة المتوخاة بل عدم تقيّد الحكومة بالسياسة التي تولّى رئيس الجمهورية ضبط اختياراتها الأساسية. بالتالي يبدو دور المجلسين المكونين للسّلطة التشريعية هو مساعدة رئيس الجمهورية على مراقبة تنفيذ الحكومة للسياسة التي يرسمها الرئيس.
ويمكن مبدئيّا اعتبار أنّ معارضة البرلمان لمواصلة الحكومة لتحمّل مسؤولياتها يمكن أن تشكّل، بطريقة غير مباشرة، معارضة لخيارات رئيس الجمهورية الذي اختار رئيس الحكومة وأعضائها. إلاّ أنّ الشروط التي وضعها الفصل 115 للائحة اللّوم هي شروط عسيرة التحقّق ممّا يجعل نجاح لائحة اللوم في إسقاط حكومة الرئيس أمرا مستحيلا. فحسب الفصل 115 لا يمكن تقديم اللائحة إلاّ إذا كانت معلّلة وممضاة من نصف أعضاء المجلسين ولا تنجح لائحة اللّوم إلاّ إذا وقعت المصادقة عليها من قبل ثلثي المجلسين مجتمعين.
بل إنّ إصرار البرلمان بمجلسيه على معارضة حكومة الرئيس يجعله تحت طائلة حلّه. فحسب مقتضيات الفصل 116 من مشروع الدستور، يمكن لرئيس الجمهورية إذا تمّ توجيه لائحة لوم ثانية للحكومة أثناء نفس المدّة النيابية إمّا أن يقبل استقالة الحكومة أو أن يحلّ مجلس نوّاب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم أو أحدهما. ويعكس هذا الفصل السلطة التقديرية الواسعة المتاحة لرئيس الجمهورية. ففي حين أنّ توجيه لائحة اللّوم يتطّلب بالضرورة تقديمها من قبل نصف أعضاء كلا المجلسين، يتيح الفصل المذكور لرئيس الجمهورية أن يقرّر إمّا حلّ كلا المجلسين أو حلّ أحدهما فحسب.
كرّس مشروع الدستور إحدى تقنيات الديمقراطية شبه المباشرة التي نادراً ما اعتمدتها الدساتير الحديثة وهي تقنية سحب الوكالة. إلاّ أنّه يقصر إمكانية سحب الوكالة على النوّاب دون رئيس الجمهورية. تبعا لذلك فإنّ وكالة النائب هي وكالة إلزامية أمّا الوكالة التي يتمتّع بها الرئيس من قبل الشعب صاحب السيادة قصد ممارسة الاختصاصات الواسعة التي يتمتّع بها فهي وكالة غير قابلة للسحب وما على صاحب السيادة إلاّ انتظار انقضاء المدّة الرئاسية بخمس سنوات لكي يقيّم آداء رئيس الجمهورية في صورة ترشّحه لمدّة رئاسية ثانية.
إنّ المتأمّل في مشروع الدستور الذي يعتزم رئيس الجمهورية عرضه على الاستفتاء الشعبي في 25 جويلية من الشهر الجاري لا يسعه إلاّ أن يلاحظ أنّ الأحكام الخاصّة بالحقوق والحريات قد استلهم جلّها من دستور 2014. ولئن تضمّن المشروع إضافات محمودة بتكريس حقوق جديدة ورفع اللبس الذي شاب تكريس بعض الحقوق والحريات المقررة في دستور 2014 على غرار حرية المعتقد والضمير فإنّه لا يمكن التغاضي عن التراجع الذي شهدته ضمانات حماية الحقوق والحريات وذلك بتنصيص مشروع الدستور في فصله الخامس على مرجعية دينية قد تشكّل مطيّة لتأويل محافظ لأحكامه المتعلّقة بالحقوق والحريات، لا سيّما في وجود محكمة دستورية تعزّز تركيبتها مخاوف غلبة النزعة المحافظة. أمّا بالنّسبة للنظام السياسي، فقد استقّر خيار معدّ مشروع الدستور على نظام رئاسوي يجعل من رئيس الجمهورية المحرّك الأساسي للحياة السياسية ويحصّنه في المقابل من أيّ مسؤولية. تبعا لذلك، يحيد النظام السياسي المقترح في مشروع الدستور عن نماذج الأنظمة السياسية القائمة على الفصل بين السلطات والتوازن بينهما. وفي صورة المصادقة على مشروع الدستور عن طريق الاستفتاء ودخول أحكامه حيّز التطبيق، فإنّه من المرجّح أن يتعمّق اختلال التوازن بين السلطات في الواقع، نظرا للأزمة التي تعيشها الأحزاب السياسية في تونس وتجعل حظوظها في إفراز أغلبية حزبية واضحة في مجلس نوّاب الشعب ترسي بعض التوازن مع سلطة رئيس الجمهورية حظوظا ضعيفة.
[1] تمت إعادة صياغة هذا الفصل في نص الامر عدد 607 الصادر في 08 جولية 2022 والمتعلق بإصلاح أخطاء النسخة الأولى لمشروع الدستور الصادرة في 30 جوان 2022. وتتمثّل التغييرات المدخلة على الصيغة الأولى للفصل في حذف الآداب العامّة من قائمة موجبات تقييد الحقوق والحريات وإضافة شرط ألاّ توضع هذه القيود إلاّ لضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وتعويض شرط أن تكون القيود "متلاءمة مع دواعيها" بشرط التناسب بين القيود ودواعيها.
[2] حسب الفصل 125 من مشروع الدستور، تتركّب المحكمة الدستورية من تسعة أعضاء تتّم تسميتهم بأمر" ثلثهم الأوّل لأقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني أقدم رؤساء الدوائر التعقيبية أو الاستشارية بالمحكمة الإدارية والثلث الثالث والأخير أقدم أعضاء محكمة المحاسبات (...). إذا بلغ أحد الأعضاء سنّ الإحالة على التقاعد، يتّم تعويضه آليّا بمن يليه في الأقدمية، على ألاّ تقّل مدّة العضوية في كلّ الحالات عن سنة واحدة."
[3] الفصل 37:" رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها وزير أوّل." في حين أنّ الفصل 71 من دستور 2014 يقتضي:" يمارس السلطة التنفيذية رئيس حكومة وحكومة يرأسها رئيس حكومة."
التعليقات