(https://www.alittihad.ae)صحيفة الاتحاد

مفهوم الملائمة الدستورية والعدول عن المبادئ السابقة

مفهوم الملائمة الدستورية والعدول عن المبادئ السابقة
قراءة في قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 32/اتحادية/2020 في 25/4/2021

من دواعي السرور عودة المحكمة الاتحادية العليا إلى ممارسة مهامها بعد توقف لمدة عام أو اكثر، وفي هذه العودة الميمونة بتشكيلها الجديد قد عادت الحياة إلى القضاء الدستوري في العراق، وكان لباكورة أعمالها الحكم الصادر عنها بالعدد 32/اتحادية/2020 في 25/4/2021 الذي تضمن القرارات الآتية:

1. رد الطعن المتعلق بطلب عدم دستورية قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 39 لسنة 1994 وأوضحت في أسباب الرد بان الأحكام الواردة فيه ما زالت الحاجة قائمة اليها في الوقت الحاضر،

2. الحكم بعدم دستورية النص غير النافذ (نص الفقرة (5) من القرار 39 لسنة 1994

3. أوردت في حيثيات القرار مبدأ يتعلق بعدم وجوب استئخار الدعوى التي يحاكم عنها المتهم بموجب القرار الطعين

وهذه الفقرات الحكمية في قرار الحكم أعلاه أوردت مبادئ أساسية تناولها الفقه الدستوري، ولان أحكام القضاء الدستوري أصبحت من مصادر القاعدة القانونية، حيث يرى بعض فقهاء القانون الدستوري إن الحكم الصادر عن القضاء الدستوري يكون اقرب إلى المنشئ للقاعدة القانونية، لأنه يفصل في مدى دستورية القانون، وبذلك فانه يفصل في مسألة قانونية مجردة وعامة وملزمة لكافة السلطات، لذلك من الممكن أن يكون مصدر غير تشريعي أي ليس مصدر رئيسي أو أصلي لأنه لا ينشئ قاعدة قانونية وإنما يسهم بنهوض قاعدة قانونية كانت ملغاة أو معطلة بعد الحكم بعدم دستورية النص الذي عطلها أو ألغاها، إلا أن عدم ذكر القضاء الدستوري في المادة (1) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل لا يعني انه لا يكون من مصادر القاعدة القانونية، بل ذهب بعض الكتاب إلى ابعد من ذلك عندما اعتبره بمنزلة المصدر الأصلي للقاعدة القانونية وهو يقوم جنباً إلى جنب مع التشريع باعتبارهما يشكلان مصدراً أصلياً للقاعدة القانونية، لأن الحكم بعدم الدستورية يؤدي إلى نهوض قاعدتين الأولى القاعدة الآمرة في النص الطعين والثانية نهوض القاعدة القانونية السابقة التي كانت معطلة بموجب النص المحكوم بعدم دستوريته، حيث لا يجوز أن يترتب فراغ تشريعي على بطلان القاعدة القانونية المحكوم بعدم دستوريتها، ويكون الحكم بعدم الدستورية سند تعتمد عليه المحاكم الأخرى باعتباره نص له قوة نفاذ ملزمة وعلى الجميع اتباعه وهذا يمثل الوصف في خصائص القاعدة القانونية باعتبارها عامة ومجردة، وهذه الصور بمجملها توضح بان الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية القاضي بعدم الدستورية قد احدث مراكز قانونية جديدة تكون بمثابة قواعد قانونية تستند إليها المحاكم عند التطبيق ويكون سريانها على الجميع، ومن هذه الأهمية التي يتمتع بها الحكم الصادر عن القضاء الدستوري كان لابد من قراءة قرار الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية أعلاه بقراءة فقهية تفيد البحث العلمي ودعم نشر الثقافة الدستورية.

المبادئ الواردة في قرار الحكم

وردت في قرار الحكم أعلاه مبادئ رئيسية مهمة تتعلق بالقضاء الدستوري وما استقر عليه فقه القانون الدستوري.

1. مبدأ الملائمة الدستورية

جاء في أسباب قرار رد الطعن المتعلق بطلب عدم دستورية قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 39 لسنة 1994 بان الأحكام الواردة فيه ما زالت الحاجة قائمة اليها في الوقت الحاضر، بمعنى النص الوارد في القرار أعلاه ملائم للظروف التي يمر بها العراق، وان سبب بقائه ونفاذه يتوقف على الظروف الحالية فان تغيرت إلى الأفضل فانه من الممكن ان لا يكون ملائم لها، وهذا هو مفهوم المخالفة للأسباب التي وردت في القرار وعلى وفق النص الاتي (تجد المحكمة الاتحادية العليا ان مواد القرار (39) لسنة 1994 المعدل المرقمة (1، 2، 3،4) لم يرد فيها ما يشكل مخالفة لنص دستوري وانها لا تتعارض مع نص المواد (2/ج و 19/خامساً و37/أولا/آ) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وان الحاجة لنصوص القانونية الواردة في المواد أعلاه من القرار لا زالت قائمة لمواجهة الجرائم التي ينطبق عليها الوصف الوارد في المواد (1، 2) من القرار وان تكييف فعل المتهمين مرتكبوا تلك الجرائم وفق المواد المذكورة من القرار لا يشكل تعارض مع حرية وكرامة الإنسان ولا يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الوارد ذكرها في الدستور) وفي تسبيب تلك الفقرة نجد ان المحكمة الاتحادية العليا قد اعتبرت القرار (39) لسنة 1994 ملائم للظروف الحالية التي يمر بها البلد وعنوان الملائمة ورد في العبارة الآتية (وان الحاجة لنصوص القانونية الواردة في المواد أعلاه من القرار لا زالت قائمة لموجهة الجرائم التي ينطبق عليها الوصف الوارد في المواد (1، 2) من القرار) ولم يكن سبب دستورية تلك النصوص لأنها من خيارات المشرع بما يملك من سلطة تقديرية في تشريع القوانين، بدليل ان المحكمة لو وجدت ان الظروف تغيرت عما كانت عليه وقت تشريع القرار (39) لسنة 1994 فأنها لربما ستقضي بعدم دستوريته ، والدليل انها ربطت دستوريته بالظروف وليس لان المشرع مارس مهامه وصلاحياته التشريعية، وظهر مفهوم الخيار التشريعي في الآونة الأخيرة من خلال اعتماده سبباً لدستورية بعض النصوص القانونية المطعون بعدم دستوريتها أمام المحكمة الاتحادية العليا في العراق في عدة قرارات وأحكام أصدرتها بمناسبة نظرها في تلك الطعون، حيث استندت إليه باعتباره سببا متاحاً للمشرع العراقي يستخدمه في ضوء السلطة الممنوحة إليه، ويقصد بالخيار التشريعي هو السلطة التي تتمتع بها السلطة التشريعية المختصة بتشريع القوانين بمعنى حرية الاختيار الممنوحة لها في ممارسة اختصاصها التشريعي وهو يماثل "السلطة التقديرية" للمشرع لان مهمة المشرع اختيار أفضل الحلول المتاحة لمعالجة مشكلة ما بموجب نص قانوني ونشاهد عمل مجلس النواب التشريعي انه يضع أكثر من مقترح نص قانوني لكل مادة من مواد القانون ويصوت عليها والمقترح الذي يحظى بالقبول يكون هو النص المعتمدة لان أعضاء مجلس النواب اختاروا هذا النص بحكم خياراتهم التشريعية في اعتماد أي النصوص المتاحة أمامهم مصطلح الخيار التشريعي حيث عرفها بعض المختصين بالقانون الدستوري بأنها حرية الاختيار الممنوحة للسلطة التشريعية في ممارسة اختصاصها بقسط من حرية التقدير عند ممارستها لذلك الاختصاص التشريعي كما عرفها البعض الآخر بأنها مكنة تتيح للسلطة التشريعية الاختيار الحر للإجراء الذي تراه مناسباً للوقائع التي تروم اتخاذه كما ورد تعريف للسلطة التقديرية في قرار للمحكمة الدستورية العليا في مصر على وفق الآتي (كان الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية مطلقة، لا يقيدها إلا ضوابط محددة يقررها الدستور وتعد تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها. ويتمثل جوهر هذه السلطة - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - في المفاضلة بين بدائل متعددة تتزاحم فيما بينها وفق تقديره لتنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما يكون منها عنده مناسبا أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها، أو ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها) نجد إن "الخيار التشريعي" هو صورة من صور السلطة التقديرية إلا انه يمتاز بكونه يمثل خيارات متاحة لحول وبدائل عدة تطرح أمام المشرع إلا إن هذه الخيارات لابد وان تكون ابتدأً من ضمن سلطة المشرع التقديرية فإذا كان المشرع لا يملك سلطة تقديرية إلا انه يملك عدة حلول وبدائل لمعالجة موضوع معين فان الخيار التشريعي لا يتحقق وينعدم مثال تقديم أكثر من مقترح لصياغة قانون المحكمة الاتحادية العليا وهذه بمثابة بدائل وحلول يفاضل بينها المشرع لكنه لا يستطيع أن يمارس سلطته في اختيار الأفضل إلا إذا تحقق النصاب القانوني لتمرير القانون لان نص الفقرة (ثانيا) من المادة (92) من الدستور قد جعل النصاب القانوني لسن قانون المحكمة الاتحادية العليا بأغلبية الثلثين على خلاف القوانين الأخرى وعلى وفق النص الآتي (تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب) كذلك المشرع " مجلس النواب" لا ينهض حقه في الخيار التشريعي لمعالجة بعض الحالات التي تستوجب التدخل التشريعي إلا بعد مضي مدة من الزمن على صدور الدستور العراقي حيث لا يجوز تعديل ما جاء في المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول من الدستور والمتعلقة بالحقوق والحريات إلا بعد مضي دورتين انتخابيتين لمجلس النواب وعلى وفق ما جاء في الفقرة (ثانيا) من المادة (126) من الدستور التي جاء فيها الآتي (لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول، والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناءً على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام) كما ان سلطة مجلس النواب في خياراته التشريعية تكاد تكون منعدمة فيما يتعلق بتقليص أو إلغاء صلاحيات الإقليم التي لم يرد ذكرها في الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية إلا بعد موافقة المجلس التشريعي للإقليم وموافقة أغلبية سكان ذلك الإقليم باستفتاء ينظم لأجل ذلك وعلى وفق الفقرة (رابعا) من المادة (126) من الدستور التي جاء فيها الآتي (لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور، من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلةً ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاءٍ عام) وبذلك فان أي خيار تشريعي لا يكون ما لم يسبق وجوده وجود سلطة تقديرية للمشرع ويدور مع تلك السلطة التقديرية وجوداً وعدماً، وممارسة المشرع لهذا الخيار التشريعي لا يكون معلق على الظروف التي أحاطت التشريع عند صدوره ولا يمكن ان يتعرض الحكم بعدم الدستورية اذا ما تغيرت ظروف التشريع في وقت صدوره عن وقت العمل به، أما ما ورد في أسباب رد الطعن الذي ورد في قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 32/اتحادية/2020 في 25/4/2021 فانه لم يكن لان المشرع قد مارس صلاحياته في الخيار التشريعي وإنما اعتبرت المحكمة ان تلك النصوص ملائمة للظروف التي يمر بها البلد وهذا له مسمى اخر في الفقه الدستوري وهو (الملائمة الدستورية) وتعرف بانها توافق التشريع مع ظروف الزمان والمكان والموضوع الذي يصدر فيها ويشير احد الكتاب في فقه القانون الدستوري بأن الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق إنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بقيود محددة، وان الرقابة على دستورية القوانين لا تمتد إلى ملائمة إصدارها، وفي هذا الصدد وتوجه احد رؤساء المجلس الدستوري الفرنسي جوليوس كريفي (Jules Crevy) إلى الجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس الشيوخ بالقول (أن ليس بنيته الدخول أبداً في صراع مع الإرادة الوطنية) فالعلاقة بين المشرع والقضاء الدستوري رست على انه لا يعود لهذا الأخير صلاحية البحث في ما إذا كان الهدف الذي يتوخاه المشرع من القانون كان يمكن تحقيقه بطرق أخرى غير تلك التي نص عليها، إلا في الحالات التي يبدو فيها إن ما نص عليه القانون غير ملائم بشكل ساطع وواضح لتحقيق الهدف الذي توخاه المشرع، وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان القضاء الدستوري قد اطرد على وضع ضوابط تمنع البحث في ملائمة التشريع أو التغلغل في بواعث إصداره أو مناقشة ضرورة التشريع من عدم ضرورته، وقضت بان ذلك يدخل في سلطة المشرع التقديرية باعتبارها من عناصر السياسة التشريعية التي يمنع القضاء من البحث فيها، لكن وجد إنها وفي مواضع أخرى قد تدخلت في البحث عن الملائمة الدستورية للتشريع إذا ما تعرض لأمور نظمها الدستور ووضع لها ضوابط محددة بشأن الملكية الخاصة وحق المواطنين في الترشح وحرية التجارة، فالسلطة التشريعية وان كان لها الحرية في تقدير ملائمة التشريع إلا إنها مقيدة بما يفرضه الدستور عليها من ضوابط وحدود، وكانت تتجنب إصدار أحكام على القانون من ناحية ملائمته أو مدى صلاحيته الاجتماعية والسياسية لان ذلك من اهم واخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع، والرقابة القضائية على دستورية القوانين تدخل في صميم العمل القضائي والمحكمة الاتحادية العليا لا تتعدى على عمل السلطة التشريعية وإنما تباشر مهامها بالمفاضلة بين نصين متعارضين الأول القانون والثاني الدستور ومن ثم تقضي بتطبيق النص الدستوري واستبعاد النص القانوني، بينما يرى بعض الكتاب المصريين بان رقابة الملائمة تطور في الرقابة الدستورية على ركن السبب في التشريع ويكون الغلط البين في التقدير يؤدي إلى بطلان التشريع ولو لم يتعلق الأمر بانحراف السلطة التشريعية أو وجود المخالفة الدستورية في الشكل والموضوع، إذ يكفي لان يقع المشرع في الغلط البين في التقدير ليقرر القضاء الدستوري عدم الدستورية في النص المطعون فيه، وفي القرار أعلاه فان المحكمة الاتحادية قد اعتبرت الملائمة سبب من أسباب دستورية النص على الرغم من ان اغلب المحاكم والمجالس الدستورية في العالم لا تأخذ بهذا الأسلوب من الرقابة لأنه تدخل في سلطة المشروع وتجاوز على صلاحياته، فاذا كانت المحكمة ترى ان الظرف غير مناسب لوجود النص وانه اصبح غير ملائم فانه سوف تقضي بعدم دستوريته وهي بذلك تكون قد حلت محل المشرع مما يؤدي إلى التداخل في السلطات على خلاف المبدأ الدستوري في الفصل بين السلطات، ولو كانت المحكمة الاتحادية العليا قد أسست قرارها برد الطعن لأنه من خيارات المشرع لكانت اقرب إلى تطبيقاتها السابقة التي اعتبرت خيارات المشرع تعود له حصراً في التشريع، مع إنها سبق وان أخذت بمبدأ الملائمة الدستورية في قرارتها السابقة ومنها ما جاء في قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 48/اتحادية/2019 في 31/7/2019 بأن المادة 46 من قانون الموازنة الاتحادية رقم 1 لسنة 2019 غير دستورية وقضت بعدم دستوريتها واتبعت في قضائها أسلوب الملائمة الدستورية، لأنها اعتبرت إن مجلس النواب وان كان يملك السلطة التقديرية في تشريع القوانين وله الخيار بما يراه مناسب من الحلول على أن لا يكون على خلاف الدستور. وبذلك يرى الفقه الدستوري ان رقابة القاضي الدستوري تقتصر على رقابة المشروعية دون الملائمة وأيضاً لا يراقب بواعث التشريع.

2. الحكم بعدم الدستورية على النص غير النافذ والعدول عن المبادئ السابقة

قضت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها أعلاه بالحكم بعدم دستورية الفقرة (5) من قرار مجلس قيادة الثورة رقم 39 لسنة 1994 ، وعلى وفق الاتي (من جانب آخر تجد المحكمة إن ما تضمنته المادة (5) من القرار رقم 39 لسنة 1994 المعدل والتي نصت على { يحال المتهمون في الجرائم المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذا القرار على المحكمة الخاصة في وزارة الداخلية بقرار من قاضي التحقيق المختص} وان النص المذكور يتعارض مع نص المادة (95) من الدستور والتي نصت { يحظر إنشاء محاكم خاصة أو استثنائية} وان هذا التعارض موجب للحكم بعدم دستورية المادة أعلاه من القرار حيث ان للنصوص الدستورية علوية في التطبيق) وهذا الحكم وردت فيه عدة نقاط يجب التوقف عندها النقطة الأولى هل النص المحكوم بعد دستوريته مازال مطبقاً والنقطة الثانية في العدول عن المبادئ السابقة للمحكمة الاتحادية العليا.

‌أ. هل النص المحكوم بعد دستوريته مازال مطبقاً: إن الدستور العراقي لعام 2005 النافذ قد عدد بعض اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا ومنها الرقابة على دستورية القوانين وعلى وفق ما ورد في المادة (93/أولا) التي جاء فيها الاتي (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: أولاً: - الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.) وهذا النص قيد نطاق القوانين التي تنظرها المحكمة الاتحادية وجعلها في القوانين النافذة حصراً، أما النصوص القانونية الملغاة أو المعطلة أو التي استنفذت أحكامها فان المحكمة غير مختصة بالنظر فيها وهذا ما استقر عليه قضاء المحكمة الاتحادية العليا في قرارات متعدد منها القرار 24/اتحادية/2008 في 22/7/2008 الذي قضى برد الطعن لان القرار الطعين كان قد استنفذ الغرض الذي من أجله قد شرع، وقرارات أخرى، وحيث أن الفقرة (5) من القرار 39 لسنة 1994 قد قرت أحالت المتهمون في الجرائم المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذا القرار على المحكمة الخاصة في وزارة الداخلية بقرار من قاضي التحقيق المختص، فان هذه المحكمة قد تم إلغائها بموجب قانون محكمة امن الدولة رقم (1) لسنة 2003 حيث ورد الإلغاء في المادة (8/أولا) التي جاء فيها الاتي ( أولا – تلغى المحكمة الخاصة في وزارة الداخلية و يلغى قرار مجلس قيادة الثـورة المرقـم بـ (209) في 29 / 6 / 1991 المعدل بقرار مجلس قيادة الثورة المرقم بـ (220) في 22 / 8 / 1992 الذي شكلت المحكمة المذكورة بموجبه .) وبذلك لم يصبح لها وجود سواء في الواقع العملي او المنظومة التشريعية، وان نص الفقرة (5) من القرار 39 لسنة 1994 أصبح غير ذي مقتضى لعدم وجود محكمة خاصة في وزارة الداخلية أصلاً ويكون غير نافذ لان غرضه قد استنفذ منذ لحظة إلغاء تلك المحكمة، وهذا ما سار عليه قضاء المحكمة الاتحادية العليا.

‌ب. العدول عن مبادئها السابقة: أما اذا رأت المحكمة الموقرة إنها من الضروري ان تعدل عن هذا الاتجاه كان عليها ان تبين أسباب العدول لإن مقتضى الحجية المطلقة التي يحوزها الحكم في القضاء الدستوري تؤدي إلى عدم جواز إثارة المسألة التي فصلت فيها المحكمة مرة أخرى، وهو ما يسمى في القضاء الدستوري بمبدأ (عدم جواز العدول عن الحجية المطلقة للحكم بعدم الدستورية)، وبذلك لا يجوز للقضاء الدستوري أن يعيد النظر في موضوع سابق سبق وان فصل فيه، ويشير الفقه الدستوري إلى حالة العدول فقط عندما يكون الدستور الذي كان معيار للحكم على النص التشريعي المطعون فيه، قد تغير كليا أو تغير المبدأ الوارد فيه المتعلق بالنص التشريعي، والفقه الدستوري يعرف العدول بأنه إحلال إرادي واضح ومؤكد لحكم جديد محل حكم آخر في موضوع الدعوى نفسها وحيثياتها السابقة، ويجب أن يكون العدول إرادي أي بإرادة المحكمة وبشكل واضح ومؤكد وليس بشكل عرضي أو في حيثيات الحكم وإنما في فقرته الحكمية وان يتعلق بذات الموضوع الذي كان محلاً لنظر دعوى سابقة وليس لموضوع آخر، ويسمى بالعدول الإرادي لأنه جاء بإرادة المحكمة متعددة منها الآتي:

1. تعديل الدستور فيأتي بمبدأ مغاير لما كان عليه وقت صدور الحكم من المحكمة الدستورية وهذا بإرادة أخرى غير إرادة المحكمة، وإنما عليها أن تتبع المبادئ الجديدة بحكم مهمتها في الحفاظ على المبادئ الدستورية، وفي قضاء المجلس الدستوري الفرنسي تم العدول لمرتين الأولى قراره العدد 410 لسنة 1999 الصادر بتاريخ 15/3/1999 والمرة الثانية في قراره العدد 490 لسنة 2004 في 12/2/2004 وذلك بسبب تعديل الدستور الفرنسي.

2. تغير الظروف التي يمر بها المجتمع بعد صدور التشريع وضرورة التجاوب مع الحاجات المستحدثة والمتطورة للمجتمع، وذلك من خلال عدول بعض المحاكم الدستورية عن أحكامها الدستورية ومنها ما قضت به المحكمة الدستورية الايطالية وبررت ذلك بان القاضي الدستوري جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي فان المحيط الاجتماعي والجغرافي والسياسي والاقتصادي من الممكن أن يؤثر فيه، بل البعض يرى إن أي قاضي لا يتلاءم مع المحيط الذي يحيط به سوف يكون وجوده وشرعيته مهددة وسيصبح غير فعال داخل هذا المحيط.

3. أما في تطبيقات القضاء الدستوري العراقي نجد إن المحكمة الاتحادية العليا سبق وان عملت بمبدأ العدول عن قراراتها السابقة ومنها الحكم بعدم دستورية المادة (113/أولاً) من قانون أصول محاكمات قوى الأمن الداخلي رقم 17 لسنة 2008 بموجب قرارها العدد 115/اتحادية/2017 في 24/10/2017 بينما كانت قد قضت بدستورية تلك المادة بموجب ثلاث قرارات كانت قد أصدرتها، حيث قضت في القرار الأول العدد 33/اتحادية/2013 في 6/5/2013 وكذلك قرارها العدد 59/اتحادية/2014 في 16/6/2014 ثم قرارها العدد 62/اتحادية/2016 في 28/8/2016 ، لكن عند الحكم بعدم الدستورية في قرارها الأخير العدد 115/اتحادية/2017 في 24/10/2017 لم توضح لنا أسباب عدولها عن حكميها السابقين، وارى في ذلك قصور في التسبيب، إذ كان على المحكمة الاتحادية العليا أن تبين وبشكل واضح ومؤكد أسباب عدولها عن حكمها السابق، لأنها كانت ترى فيه نص دستوري لوجود خصوصية لرجل الشرطة، بينما في قرارها الأخير الذي عدلت فيه عن أحكامها السابقة اعتبرته انه يتقاطع وأحكام المواد 47 و 88 من الدستور وهي ذات المواد التي كانت سنداً للطعن في الدعاوى السابقة، لذلك ما سجلناه على المحكمة سابقا نسجله الآن إذ كان المقتضى ان توضح المحكمة الموقرة أسباب العدول عن المبدأ الذي استقرت عليه في قرارات سابقة، ويذكر إن العدول هو نوع من المرونة المتاحة للقضاء الدستوري في التعامل مع تطور الحياة وليس به عيب أو إقرار بالخطأ وفي المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية وبإحصائية لعدد حالات العدول منذ عام 1810 ولغاية عام 1991 بلغت ما يقارب 260 قضية.

وفي الختام لابد من القول بان عودة المحكمة الاتحادية العليا لممارسة مهامها قد أعادت الحياة للنشاط الدستوري تجاه الدعاوى التي رفعها المتضرر من النصوص النافذة وفيه توفير ضمانة لحماية حقوق الإنسان، وما ذكر في هذه القراءة للقرار العدد 32/اتحادية/2020 في 25/4/2021 لاتعدوا عن كونها رؤيا فقهية تجاه حكم قضائي ملزم للجميع وواجب الاتباع من الكافة عملاً بأحكام المادة (94) من الدستور، ونتمنى للتشكيل الجديد لهيئة المحكمة من القضاة الأفاضل التوفيق والنجاح وان تكون المحكمة الموقرة بمستوى طموحات الشعب العراقي وأمنياته التي اغتالتها يد الفساد المستشري في اغلب مفاصل الدولة العراقية.

إنّ الأراء الواردة في مدوّنة نقاشات في الدستور تعبّر عن رأي كاتبها، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر المنظمة العربية للقانون الدستوري أو منظمة كونراد أديناور أو أي مساهم آخر في المدوّنة.

التعليقات

 

اترك تعليقاً

سيتم مراجعة تعليقك من قبل المحرر. لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

.لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني

.سيتم مراجعة تعليقك من قبل المحرر