كيف تحول مكان تسجيل السكن إلى قيد سياسي في لبنان
القرية (الضيعة) في لبنان أو المحلة أصبحت هذا المكان الثابت الذي يرتبط به المواطن منذ ولادته، ويظهر على بطاقة هويته واخراج قيده، فيرثه من والده وينقله إلى أبنائه. لا بل أن الحقوق السياسية باتت تابعة لمكان القيد كون قوانين الانتخابات في لبنان دأبت على ربط حق الاقتراع بالدائرة الانتخابية حيث جرى تسجيل قيد الناخب. فالنظام الانتخابي السائد اليوم يفصل بين مكان الاقامة الفعلية والدائرة الانتخابية التي يمارس فيها المواطن حقه بالمشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية، بحيث قد يكون الفرد ترك مكان قيده "الأصلي" منذ زمن بعيد وانفصلت عمليا مصالحه الحياتية عنه، لكنه مرغم للعودة الى "ضيعته" كي يمارس حقه بالاقتراع. فهل هذا الواقع القانوني الذي يعتبر اليوم من المسلمات كان دائما على حاله، أو انه عرف تعديلات هدفت الى الحد من حرية المواطنين من خلال ربطهم بأمكان محددة حيث تكثر وسائل السيطرة السياسية والتصنيف الطائفي لهم.
ارتبطت القرية بمخلية اللبنانيين، لا سيما أبناء جبل لبنان، كحيز جغرافي- بشري محافظ حيث يتم توارث التقاليد والعادات الاجتماعية. ولا شك ان دراسة الضيعة من هذا المنظور يدخل ضمن مجال تخصص العلوم الاجتماعية. لكن سؤالنا لا يتعلق بهذا الجانب من الموضوع بل هو يقتصر فقط على تحديد المفهوم القانوني للقرية. ما هي القرية قانونا؟ أو بتعبير أدق كيف تتم نسبة قرية معينة إلى فرد محدد؟ لماذا يقال ان هذا الفرد في لبنان هو من هذه "الضيعة" حتى لو لم يذهب اليها منذ سنين طويلة ولم يعد يرتبط بها اجتماعيا أو حتى عاطفيا.
الجواب على هذه التساؤلات يعود للقرار رقم 763 الصادر في 9 أذار 1921 عن المفوض السامي الفرنسي الخاص باجراء احصاء عام لسكان دولة لبنان الكبير. فقد فرضت المادة الخامسة من القرار المذكور تشكيل لجان احصاء في كل قضاء تقوم بالإنتقال إلى كل قرية من قرى القضاء بغية احصاء السكان وتسجيلهم ضمن دفاتر خاصة تتضمن مكان اقامتهم الفعلية على ان يتم لاحقا اصدار "تذاكر نفوس" تتضمن جميع المعلومات الاحصائية التي سجلتها اللجنة. وهكذا تحول مكان سكن اللبنانيين سنة 1921 إلى قريتهم أو محلتهم وفقا للفهم القانوني لهذه التعابير.
من أهداف احصاء 1921 كان التحضير لانتخابات المجلس التمثيلي سنة 1922 بحيث يتم معرفة عدد سكان لبنان وأعمارهم وتوزيعه الطائفي من أجل التمكن من تحديد عدد المقاعد النيابية العائدة لكل طائفة في مختلف الدوائر الانتخابية. وبالفعل صدر القرار رقم 1307 تاريخ 10 اذار 1922عن المفوض السامي الذي يعتبر أول قانون للانتخابات في زمن الانتداب وقد نصت المادة 26 منه على التالي: "القوائم الانتخابية تشتمل على أسماء جميع ابناء لبنان الكبير البالغين من العمر احدى وعشرين سنة كاملة (...) والمتخذين محلا أصليا حقيقيا في مدينة مستقلة اداريا أو في القضاء والمقيمين فيها منذ ستة أشهر على الأقل. فهؤلاء يمكنهم ان يعملوا بمقتضى حقوقهم الانتخابية في الجهة التي اتخذوا فيها محلهم الأصلي الحقيقي". أي ان هذه المادة انطلقت من مبدأ ربط حق الاقتراع بمكان السكن الفعلي. وهذا ما يظهر جليا كون المادة ذاتها تضيف ان هذا المبدأ يجب أن يعمل به لكل انتخابات تأتي بعد احصاء عام للسكان. فالاحصاء هو في المبدأ عملية دورية بحيث يتم خلالها تسجيل التعديلات التي طرأت على السكان ومن بينها طبعا مكان اقامتهم الجديد في حال انتقلوا من مكان الى اخر في الفترة الزمنية الفاصلة بين الاحصاء القديم والاحصاء الجديد.
ويتأكد هذا الأمر أيضا في الفقرة الثانية من المادة 26 التي تعفي من شرط الاقامة رجال الدين أو الموظفين الرسميين الذين بحكم مهامهم يقيمون في جهة معينة. بحيث يمكن لهم الانتخاب في هذه الجهة دون احترام شرط الاقامة لمدة ستة أشهر (استثنائيا جرى تقصير هذا المدة الى 45 يوما بالنسبة لاول انتخابات نيابية ستجري بعد اصدار القرار رقم 1307). والأمر نفسه ينسحب على المادة 27 التي تعلن بأن الناخبين الذين جرى قيدهم عبر الخطأ على أكثر من قائمة انتخابية يتوجب عليهم التقدم بطلب لتصحيح قيدهم من خلال تحديد المكان الحقيقي لاقامتهم على ان يثبتوا احترامهم شرط فترة الاقامة.
ان ارتباط الحقوق السياسية بمكان السكن الفعلي للمواطن وما يترتب على ذلك من حرية الفرد بنقل مكان سكنه جرى تكريسه صراحة في القرار رقم 2851 الصادر عن حاكم لبنان الكبير في 2 كانون الثاني 1924 والمتعلق بقيد وثائق الاحوال الشخصية إذ نصت المادة 40 على التالي: " كل شخص مقيد اسمه في سجلات الاحصاء اذا رغب في نقل محله الى جهة غير الجهة التي قيد فيها اسمه بقصد التوطن الدائم فيها، وجب عليه ان يقدم تصريحا بهذا الشأن الى قلم الاحوال الشخصية الموجودة في الجهة التي سيتخذ فيها مقامه الجديد. ويجب ان يكون تقديم هذا التصريح في خلال ستة اشهر تبتدىء من تاريخ وصوله اليها ويمكن ارساله مباشرة او بواسطة المختار. وكل شخص لا يقوم بالمعاملات المختصة بنقل محل الاقامة في خلال المهلة المذكورة يغرم بدفع جزاء نقدي قدره 200 قرش سوري لبناني واذ ابى الدفع يحول الجزاء النقدي الى حبس". الملاحظ ان تصحيح محل السكن كان شرطا الزاميا فرضه القرار على الافراد تحت طائلة الغرامة والحبس.
وتكرر اللأمر أيضا مع قانون الانتخابات الجديد الذي أصدره المفوض السامي بموجب القرار رقم 2 تاريخ 2 كانون الثاني 1934 إذ نصت المادة 24 منه على التالي: " ان القوائم الانتخابية تشتمل على أسماء جميع ابناء الجمهورية اللبنانية البالغين من العمر احدى وعشرين سنة كاملة (...) والمتخذين لهم محلا أصليا حقيقيا في القضاء والمقيمين فيه منذ ستة أشهر على الأقل". وقد تكرر هذا النص بحرفيته تقريبا في قوانين الانتخابات الصدارة سنة 1950 و1952 و1957.
وانسجاما مع هذه المبادئ صدر قانون جديد لقيد وثائق الاحوال الشخصية وقد نصت أيضا المادة 40 منه على التالي: "لا يجوز للشخص الذي ترك الجهة المقيد اسمه فيها بقصد الاقامة الدائمة في جهة اخرى ان ينقل اسمه اليها الا بعد انقضاء ستة اشهر على اقامته فيها، وعلى صاحب العلاقة ان يقدم طلباً بذلك الى قلم الاحصاء والاحوال الشخصية في المحلة التي يريد الانتقال اليها، وان يضم اليه افادة من مختار المكان الذي يطلب نقل اسمه اليه تقيد اقامته فيه مدة ستة اشهر على الاقل". نلاحظ ان هذا النص أخف حدة من قرار حاكم لبنان الكبير لسنة 1924 الذي جعل من تصحيح القيود في حال نقل مكان السكن شرطا الزاميا على الافراد بينما النص الحالي يكتفي بترك الخيار للشخص المعني شرط ان يقدم طلبه بعد ستة أشهر من اقامته في المكان الجديد.
بعد انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية واجراء انتخابات نيابية وفقا لقانون انتخابي جديد سنة 1960 قررت الحكومة ارسال مشروع قانون معجل يهدف الى تعديل المادة 40 من قانون 1951 بهدف الحد من حرية تبديل مكان الاقامة. وجاء في الأسباب الموجبة لمشروع قانون الحكومة التالي: "كثيراً ما يتقدم أشخاص من دوائر النفوس بطلبات تبديل محل الاقامة من قرية الى غيرها ومن جهة الى أخرى لغايات حزبية أو ثأرية تؤدي بالنتيجة الى وقوع حوادث من شأنها الاخلال بالأمن وتعكير صفو الراحة والطمأنينة في الأماكن المطلوب الانتقال اليها. لذلك، ولما كانت التحقيقات التي تجريها الدوائر المختصة بشأن هذه المعاملات تظهر للحكومة مسبقا الغاية والدافع الأساسي لطلبات تبديل محل الاقامة، وليس هنالك أي نص قانوني يمنع استجابة هذه الطلبات، لهذه الأسباب وتحاشياً لكل محذور ينتج من جراء هذا التبديل، رئي التقدم بمشروع القانون المعجل المرفق".
وقد ناقش المجلس مشروع القانون لكنه رفض التصديق عليه وقرر احالته للجان. وقد صرح النائب البير مخيبر خلال الجلسة قائلا: "أنا ضد هذا المشروع لسبب واحد، هو أنه مشروع ضد الحريات العامة وضد الحرية الشخصية. انني أرجو من دولة رئيس الحكومة ان يستمع الى الحكمة التي أقولها: يا سيدي، لسنا في بلد شيوعي حتى تسمح الحكومة لفئات من الناس أن تسكن في المنطقة الفلانية وتمنعهم من السكن في المنطقة الفلانية. فالشارع اللبناني الذي وضع القانون السابق قال: يحق لكل لبناني أن ينقل تذكرة هويته الى سجل المنطقة التي يعيش فيها مدة تزيد عن الستة أشهر، أما اليوم وبموجب هذا المشروع حصرت الحكومة هذا الحق بها، فهي ترتئي مثلاً أن يكون جان حرب في البترون بدلاً من أن يكون في بيروت، أو أن يكون في بيروت بدلاً من أن يكون في صيدا. ان حصر هذا الحق بيد الحكومة يمس الحريات الشخصية، ولهذا، اطلب رد هذا المشروع لأنه يشكل بالفعل خطراً على الحرية الشخصية، ويشكل نوعاً من الحصر في يد الحكومة في انتقال الاشخاص من بلد الى بلد" (جلسة 29 تشرين الثاني 1962).
الغريب ان هذا المشروع نام في أدراج اللجان النيابية ولكن قبل اجراء انتخابات 1964 النيابية قررت الحكومة استخدام المادة 58 من الدستور التي تجيز لها وضع موضع التنفيذ كل مشروع قانون معجل لم يبت به مجلس النواب خلال أربعين يوم من تاريخ احالته اليه، فأصدر الرئيس فؤاد شهاب المرسوم رقم 15738 تاريخ 11 اذار 1964 الذي وضع موضع التنفيذ مشروع القانون هذا وقد نص على الغاء المادة 40 من قانون 1951 واستبدالها بالنص التالي: "لا يجوز للشخص الذي ترك الجهة المقيد اسمه في سجلات نفوسها بقصد الاقامة الدائمة في جهة اخرى ان ينقل اسمه اليها الا بعد انقضاء ثلاث سنوات على اقامته فيها بصورة مستمرة، وعلى ان يقدم تصريحا بذلك موقع منه ومن المختار ومن شاهدين الى قلم الاحوال الشخصية في المحلة او القرية التي يريد الانتقال اليها على ان يجري تحقيق بواسطة الشرطة او الدرك لاثبات صحة هذه الاقامة. ويحق للحكومة رد الطلب اذا تبين ان هنالك ضرورات موجبة لذلك".
وهكذا بات تكريس انتقال محل الاقامة وما يترتب على ذلك من ممارسة للحقوق السياسية والانتخابية في المكان الجديد يخضع لشروط صعبة ولتقدير السلطة الاستنسابية للحكومة. وقد أدى هذا الواقع عمليا إلى الفصل بين المواطن ومكان اقامته الفعلي وربطه بمكان تسجيل قيده تبعا لاحصاء 1921 واحصاء 1932 اخر احصاء رسمي عرفه لبنان. ولا يخفى ما لهذا الربط القانوني المحكم من فرض قيود على حريات المواطنين بحيث تتحول القرية إلى حيز خاضع لسيطرة مجموعة من النافذين السياسيين الذين يتحكمون بأصوات الناخبين، هذا علاوة على تأبيد الطابع الطائفي للقرى والضيع اللبنانية إذ لا يشارك المقيم "الغريب" في انتخاباتها البلدية ويتوجب عليه عند اجراء اي انتخابات العودة إلى قريته "الأصلية" حيث يسهل تصنيفه والسيطرة عليه والتحكم بصوته.
التعليقات