مسودة دستور اليمن الجديد: مقاربة مستقبلية
في 17 كانون الثاني/يناير 2015 صدرت " مسودة دستور اليمن الجديد "، وتضم 446 مادة موزعة على 10 أبواب و13 فصلاً، أَعَدَّتها لجنة صياغة الدستور المكونة من 17 عضواً يمثلون شخصيات قانونية ومكونات سياسية، والتي صدر بتشكيلها قرار جمهوري في 8 آذار/مارس 2014. وتضمّن القرار أيضًا أن تفضي أعمالها إلى صياغة دستور جديد لليمن كدولة اتحادية مؤلفة من ستة أقاليم، وأن تشمل توصيات " وثيقة الحوار الوطني الشامل ".
وكان اليمن على مسافة خطوة واحدة هي الاستفتاء ليتحول من دولة موحدة إلى اتحادية، بَيدَ أن هذه المسودة ينطبق عليها مقولة رائد الفلسفة الألماني هيغل "إن كل فكرة تحمل في طيّاتها بذور فنائها". فكانت بذرة فناء هذه المسودة هي المادة 391 التي نصت على أن: "تتكون جمهورية اليمن الاتحادية من ستة أقاليم، أربعة في الشمال واثنان في الجنوب، وهي: إقليم حضرموت، وإقليم سبأ، وإقليم عدن، وإقليم الجند، وإقليم آزال، وإقليم تهامة، ...".
وتركز الخلاف حين أصرَّ النظام الانتقالي أن تنص هذه المادة صراحةً على تحديد عدد وحدود الأقاليم، وقابل ذلك اعتراض من أنصار الله على حدود الأقاليم بسبب ضم صعدة (مسقط رأس أسرة الحوثي) إلى إقليم آزال المفتقر للثروات ولمنفذٍ إلى البحر. بينما اعترض الحراك الجنوبي على عدد الأقاليم، لأنه شطر الجنوب إلى إقليمين، وطالب بأن يكون الجنوب إقليمًا واحدًا. كما أثيرت انتقادات أخرى منها أن حدود هذه الأقاليم تقسم اليمن إلى أغنياء في إقليمي سبأ وحضرموت، وفقراء في بقية الأقاليم، بالإضافة إلى ما اعتُبرت نوايا مُريبة لاستحداث صراع طائفي حين جُمعت الزيدية في إقليم واحد (آزال)، والشافعية في بقية الأقاليم.
وكان الاكتفاء بالإشارة إلى جوهر ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر الحوار وهو أن اليمن "دولة اتحادية"، وترك التفاصيل الخلافية لتفاهمات لاحقة من الحلول الآنية المطروحة لتجاوز تلك المعضلة. وعلى الأرجح كان بالإمكان إعادة النظر في مسألة تقسيم الأقاليم ومعالجة جدلية التوزيع العادل للثروة عبر ترتيبات إدارية وقانونية عوضًا عن الهندسة الترابية المعقدة للحدود الاقتصادية الداخلي. وقد نشرت المنظمة العربية للقانون الدستوري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 إحدى المساهمات المقترحة لتسوية هذه الإشكالية، تحت عنوان: “ الفيدرالية في اليمن: المأزق ومقترحات الحل ”.
اليوم وبعد مضي أكثر من ست سنوات على طرح هذه المسودة، يتعين النظر بجدية لمآلها عبر مقاربة أولية تحاول طرق باب استشراف مستقبل اليمن الدستوري، وطرح أسئلة ليس هنا مقام الرد التفصيلي عنها، مثل: هل لا تزال هذه المسودة قابلة للتطبيق حتى لو تم تعديلها وتنقيتها من المادة 391، أم أن هناك حاجة للتخلي عنها كليًّا؟ وفي الحالة الأخيرة هل البديل دستور دائم أم أن وضع الدولة ما بعد النزاع يحتاج إلى البحث في بدائل وخطط دستورية مؤقتة أو انتقالية؟ وما الذي يمكن أن يتضمنه مشروع الدستور فيما يتعلق بجدلية شكل الدولة والتقسيم الترابي، وآلية توزيع الثروة؟ ومتى يجب تبني مشروع الدستور؟ هل بالتوازي مع مباحثات وقف الحرب أم بعدها؟
ويتعين التلميح إلى أن استشراف المستقبل الدستوري لليمن لن يكون سهلًا لاسيَّما أنّه يقترن بديناميكية وتغير مستمر في بيئة صراعية. وقد تسببت الحرب ببعدها الخارجي في تجميد النقاش الدستوري، وتغيرت طبيعة النزاع من صراع محلي بين أطراف داخلية بالدرجة الأولى إلى خارجي مما فرض تبدل الأولوية من نقاشات حول العملية السياسية إلى مسألة السلام ووقف الحرب. ومع ذلك، إذا نجحت جهود إحلال السلام، خاصة في ظل المناصرة التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية الجديدة، يمكن توقع إعادة فتح ملف الدستور، بل والدفع به إلى المقدمة.
وبقدر ما تتمتع به مسودة الدستور هذه من أهمية كونها تعكس في الأغلب توصيات " وثيقة مؤتمر الحوار الوطني "، وهي متوَّجة بخبرات عميقة من فريق الدعم التابع للأمم المتحدة في صنعاء، والمؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، إلَّا أنها مكبلة بعقد كثيرة. فقد مضى عليها أكثر من نصف عقد من الزمن تبدلت خلاله موازين القوة على الأرض، سواءً بتجذر التدخل الخارجي الذي أسس مصالح يرغب في حمايتها وما لذلك من تأثير على المفاوضات الدستورية، أو على مستوى القوى الداخلية حيث تراجعت سلطة حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي لصالح قوتين بارزتين تمكنتا من فرض واقع مغاير عن الذي كان يعيشه اليمن يوم صدور هذه المسودة، الأولى في الشمال يمثلها أنصار الله الحوثيين والأخرى في الجنوب يمثلها المجلس الانتقالي الجنوبي.
ولأن طبيعة المقاربات المستقبلية تستدعي استحضار عامل الزمن والانفتاح على كافة التوقعات، فإن المشاورات الدستورية تتأخر بالقدر الذي تتعثر فيه عملية بناء السلام، وكلما طال أمد الصراع والحرب تعززت حظوظ القوى المسيطرة على الأرض، وتشجعت أكثر لدسترة الأمر الواقع.
ست توصيات لمقاربة مستقبلية
1. إن أول ما يحتاج إليه اليمن هو خريطة طريق انتقالية تسمح بالتحول من الحرب إلى السلم، وإنهاء الحصار، والإفراج عن المعتقلين والأسرى، والعودة الكريمة والأمنة للنازحين واللاجئين والمهجرين، ودعم الاقتصاد، ودفع المرتبات، وإعادة الإعمار والتعويض وجبر الضرر، واسترداد الأموال والملكية العقارية، والفصل الوظيفي، وإقرار تدابير العفو في إطار من المصالحة الوطنية العادلة، وغيرها من التدابير الأخرى المتعلقة ببناء الثقة وترسيخ السلام ومنع تجدد النزاع.
2. يتعين أن يمر البناء الدستوري أثناء التحول الانتقالي بمرحلتين:
المرحلة الأولى تتضمن الاستعانة بـ"خطة دستورية مؤقتة" تلحق باتفاق انتقالي محدد بمدة زمنية يفترض ألّا تتعدى ثلاث سنوات، تمنح الأولوية للمسائل الملحة التي تدعم تثبيت الاستقرار وبناء السلام، ولإيجاد إطار قانوني للحكم يقوم على تشارك السلطة كمتطلب لإدارة المرحلة الانتقالية؛ إذ يصعب الحديث عن "تداول السلطة" قبل إقرار دستور دائم يضمن ذلك.
وفي المرحلة الثانية يجري إنشاء "مفوضية دستورية" تضم نخبة من الخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد والإدارة العامة يتم اختيارهم بالترشيح والتعيين. تمارس المفوضية عملها بحرية وحياد تام، وتلتزم بالمعايير الديمقراطية والشفافية والتشاركية المجتمعية. ويناط بها مهام إجراء نقاشات معمقة لسَنّ دستور دائم يقوم على أسس ومبادئ تحفظ هياكل الدولة وبنيتها الوطنية والترابية، واحترام سيادتها على أراضيها وأجوائها ومياهها، كمبدأ توجيهي "فوق دستوري"، ويُعرض للاستفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة والمراقبة الدولية لضمان الاستجابة لمعايير الشفافية والمساءلة المتعارف عليها، وأن يشمل جميع من تحق لهم المشاركة من اليمنيين بمن فيهم أولئك الذين يعيشون خارج البلاد.
3. إطلاق "منتدى حوار دستوري" بالتوازي مع جهود بناء السلام كخطوة استباقية نحو المستقبل الدستوري، بهدف إحداث شرخ في جدار الجمود الذي وسم العملية السياسية والدستورية. كما أنه يتوقع لهذا المنتدى أن يقوم بتهيئة البيئة والمناخ الملائم لتقديم المساهمات والأفكار الجيدة التي من شأنها إيجاد أسس وتسويات دستورية، خاصة إذا كان هذا المنتدى برعاية الأمم المتحدة والمؤسسات والمنظمات المعنية بالإصلاح الديمقراطي وبناء الدساتير.
4. يستحسن أن تنطلق النقاشات من الترتيبات الدستورية الموجودة مسبقًا، أي دستور الجمهورية اليمنية المعمول به، ومسودة دستور اليمن الجديد 2015. وعلى ضوء ذلك يمكن توقع إقرار كلي لمواد سابقة وبالأخص تلك المتعلقة بالأسس العامة الاجتماعية، والثقافية، والحقوق والحريات، والهيئات والمجالس المستقلة، والإدارة العامة، والبيئة، ومواد سيتم تعديلها جزئيًّا، وأخرى سيتم إلغائها كليًّا، وأخرى جديدة يتم إضافتها.
5. أهمية وجود آلية ضابطة تنظم الدور الخارجي وحدود مساهمته في دورة العملية الدستورية، لخلق توزان بين ضرورة أن يُمنح لليمنيين أنفسهم فرصة صياغة الدستور، وبين الحاجة إلى حضور العنصر الخارجي كضمانة إشرافية ورقابية ضاغطة ومحايدة لإنجاح هذه العملية، وتقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والإسناد الفني والخبرة التقنية والتمويل اللوجستي والمالي.
6. الاستئناس بالتجارب الدولية التي أوجدت أفكار ملهمة يمكن إسقاطها كمعالجات دستورية للمسائل الشائكة والقضايا الحساسة في اليمن – بالأخص دساتير ما بعد الصراع، مثل دستور جنوب أفريقيا المؤقت لعام 1994 بوصفه أكثر التجارب الدستورية الناجحة والقريبة من الحالة اليمنية، وكذلك الدستور الانتقالي لجمهورية بوروندي لعام 2001 الذي جاء متوافقًا مع اتفاق أروشا للسلام والمصالحة، وهو نموذج قريب من الأـساس الذي بنيت عليه مسودة دستور اليمن 2015 حين اعتمدت توصيات " وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل ".
في الختام، قد يكون من الصعوبة بمكان توقع أن يحل السلام الحقيقي، وأن تترجم المبادئ الدستورية على أرض الواقع ما لم تقتنع القوى المتفاوضة بالآلية التي سيتم بموجبها حماية مصالحها ومكتسباتها التي حققتها وترى أنها قدمت في سبيلها الكثير من التضحيات. ويتطلب استئناف المسار الدستوري بذل الكثير من الجهود والمفاوضات المعقدة لتقليص الفجوة بين توقعات القوى الأساسية المؤثرة في المشهد السياسي والعسكري، والترتيبات الدستورية العادلة التي يجب أن تلبي تطلعات الشعب في أن يحقق الدستور وظيفته كعقد اجتماعي وليس اتفاق مصالحة ومحاصصة بين أطرافه لتوزيع المناصب والثروة.
التعليقات