Credits:123RF - Aerial view during the explosion in the port area of Beirut, Lebanon. Streets and buildings.

تفجير مرفأ بيروت: الحق في الوصول الى العدالة في مواجهة الحصانات

بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على التفجير وتحديدا" بتاريخ 10 كانون الأول 2020، قام المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان بالادّعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وعلى وزير المال السابق علي حسن خليل ووزيري الأشغال العامة السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، بجرم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وايذاء مئات الأشخاص .

ما أن صدر خبر الادعاء حتى تسارعت مواقف الأحزاب والتيارات السياسية التي شاركت ولا تزال تشارك في الحكم الى التضامن رافعين راية ما اعتبروه يتعلّق ب"الحصانات الدستورية" ورفض "الاستنسابية" في الملاحقة".

وعلى أثره تقدّم الوزيرين السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر بطلب لنقل الدعوى. فصدر بتاريخ 18 شباط 2021 قرار عن محكمة التمييز الجزائية بأكثرية ثلثي أعضائها قضى بنقل الدعوى من تحت يد المحقق العدلي ورفع يده عنها. وكانت المحكمة قد وصلت الى هذه النتيجة بعد أن اعتبرت ان الارتياب المشروع قد تحقّق في الدعوى الراهنة وذلك لسببين: الأول، تفسير قول القاضي صوان في معرض جوابه على طلب النقل بأنه "لن يتوقف أمام أي حصانات" على أنه "لا يحتمل أي تأويل وهو يعني بصورة مباشرة أنه لن يتوقف أمام القوانين التي تنص على هذه الحصانات" والثاني، اقرار القاضي صوان أن منزله قد تضرّر من الانفجار.

والبارز في قرار محكمة التمييز هو اصرارها على فرض قراءتها للدستور والنصوص القانونية مانعة على القاضي امكانية البحث في شروط تطبيق الحصانات المنصوص عليها بموجب الدستور والقانون من جهة أولى والتوسع في مفهوم تضارب المصالح الذي قد يمنع على القاضي النظر في قضية قد تعرض أمامه من جهة ثانية.

ويطرح المسار الذي اعتمدته محكمة التمييز اشكاليات تتعلّق بمعايير دستورية كرّسها الدستور الى جانب الحصانات ممّا يستوجب العمل على التوفيق فيما بينها وهي: الحق في الوصول الى العدالة المكرّس بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي يتمتع بقيمة دستورية ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عنه في المادة 20 من الدستور اللبناني وهذا ما نقترح مناقشته في هذا المقال.

فعند تحليل المنطق المعتمد، يصبح واضحا" أن رفع يد المحقق العدلي تمّ نتيجة قراءته للنصوص الدستورية والقانونية المتعلّقة بحصانة أعضاء مجلس النواب والمحامين كما وأنه استند الى نظرة للوظيفة القانونية تقصي القاضي من النظر في قضايا الشأن العام.

1. استقلالية القاضي تقف عند الحصانات:

نصت المادة 20 من الدستور على أن "القضاة مستقلون في إجراء وظیفتهم". وان استقلالية القاضي لا تنحصر باستقلاليته الخارجية عن السلطات التشريعية والتنفيذية، بل تتجلّى أيضا" في مفهوم الاستقلالية الداخلية عن زملائه القضاة و" عدم تعرّضه الى أي ضغط من داخل الجسم القضائي من قبل الهيئات القضائية وزملائه، خصوصاً الذين يتوّلون مناصب قضائية عليا وبالأخص مناصب مؤثَرة في مساره المهني.وتشير الفقرة 3 من إعلان Singhvi إلى استقلالية القضاة عند اتخاذ أحكامهم من زملائهم ورؤسائهم من القضاة، وأن أي تنظيم تراتبي للقضاء أو فارق في الرتبة أو المرتبة يجب ألاَ يؤثر بأي شكل من الأشكال على حرية القاضي في اتخاذ حكمه بحرية".

ان أحد أبرز أوجه هذه الاستقلالية الداخلية يكمن في عدم جواز التدخل في القرارات الصادرة عن القاضي الّا في سياق اجراءات الطعن التي يجيزها القانون والتي هي الاعتراض، اعتراض الغير، اعادة المحاكمة، الاستئناف والتمييز. فلا يجوز مثلا" نقل الدعوى ورفع يد القاضي عن الملف الذي ينظر فيه بمجرّد معارضة المتداعيين على قراءته للقانون حيث يعود لهم في هذه الحالة انتظار صدور حكم قابل للطعن للعودة والطعن فيه وفقا" للوسائل التي يكرّسها القانون. الاشكالية التي يطرحها قرار محكمة التمييز تكمن في هذه النقطة وتحديدا" في أن المحكمة تدخلّت في تفسير القاضي للقانون والدستور في حين أنها لم تكن تنظر في تحقيق تفجير المرفأ بصفتها مرجعا" للطعن في قرارات المحقق العدلي (ولم يكن يعود لها بالتالي النظر في مدى صحة تطبيقه للقانون)، بل بصفتها مرجعا" للنظر في طلب نقل الدعوى والتحقق من مدى وجود ارتياب مشروع. بمعنى آخر، ان المسألة المطروحة أمام محكمة التمييز لم تكن تتعلّق في ما إذا كان يحق للمحقّق العدلي الادعاء على محامين، أعضاء من مجلس النواب بصفتهم كوزراء سابقين عندما تمّ استيراد مادة النيترات أمونيوم وتخزينها، حيث أن البحث في هذا الدفع يدخل في مفهوم الدفوع الاجرائية التي يمكن للمدعى عليهم الادلاء بها أمام قاضي التحقيق، وفي مرحلة لاحقة أمام المجلس العدلي (عبدو غصوب، "ملاحظات على القرار الصادر عن محكمة التمييز الجزائية الغرفة السادسة الجزائية تحت رقم 5/2021").

الا ان المحكمة أصرّت على أن تغوص في هذه المسألة وعلى أن تفرض قراءتها للدستور والقانون، جاعلة الحصانات من المحرّمات القانونية التي يمنع على القاضي الغوص بها أو التحقق من توافر شروط تطبيقها؛ ومآل قرارها هو أن أي قاض يقرر أن يحصر تطبيق الحصانات المنصوص عليها في الدستور والقوانين ترفع يده عن الدعوى التي ينظر بها. وهذا يشكّل بحد ذاته تدخلًا في استقلالية القاضي الداخلية، نابعًا من زملائه أعضاء محكمة التمييز، حيث يملي في الواقع على القاضي اتجاها" معينا" لتفسير القانون وذلك، خارج إطار الطعن، تحت طائلة اطاحته عن الملف الذي يعود له النظر فيه.

والجدير بالذكر في هذا الإطار أن هذا الاملاء جاء على خلفية الحصانة المزعومة للمسؤولين السياسيين من الملاحقة واقفال أي باب كان لمواجهة الفساد الخانق في كيفية ادارة الشأن العام، في حين أن مسألة الحصانات الدستورية والقانونية تجد مقاربات مختلفة في القانون. وهذا ما يتبيّن مثلا" في اتجاه بعض المحاكم وتحديدا" المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان التي ادانت دولاً لمخالفة الحق في المحاكمة العادلة عند رفض مجلس النواب رفع الحصانة النيابية بالرغم من عدم وجود أي رابط بين الاعمال موضوع الملاحقة والوظائف البرلمانية وبعد أن اعتبرت أيضا" ان " من شأن تعليق كلّ ملاحقة جزائية بحق نائب خلال مدة ولايته البرلمانية أن يؤدي الى مرور فترة زمنية طويلة بين ارتكاب الوقائع المعنية وفتح الإجراءات الجنائية مما قد يجعل الملاحقة غير اكيدة، لا سيما فيما يتعلق بالأدلة ... "(CEDH, 16 November 2006,Tsalkitis v. Greece, application n°11801/04, ).

وان ما عبّر عنه القاضي صوان عندما أشار الى أن " القرار بدعوة المستدعيين بصفة مدعى عليهما تم بصفتهما وزيرين سابقين وليس بصفتهما محاميين او بصفتهما النيابية، فلا تفيدهما الحصانة " يقع تحديدا" في هذا السياق.

الخلاصة إذن، رسالة موجهة الى كافة القضاة في لبنان: اياكم واللجوء الى تفسير القانون والدستور على أنه يضع شروطا" للاعتداد بالحصانة وبأصول خاصة للادعاء، فأي استقلال ذاتي يقابل بإطاحتكم!

ان موقف محكمة التمييز يثير الجدل ليس فقط لناحية التدخل في عمل القاضي، بل أيضا" لجهة رفض اعتماد قراءة الحصانات المنصوص عليها في الدستور والقانون على ضوء الهدف المرجو من تكريسها كما والحق الدستوري أيضا" في المحاكمة العادلة.

2. حيادية القاضي تمنعه من النظر في قضايا الشأن العام:

ارتكزت محكمة التمييز في قرارها الى سبب ثان مفاده أن تضرر منزل القاضي " ولما لذلك من تأثير نفسي عليه بحكم الطبيعة البشرية" من شأنه أن يبرر " اعتقاد المستدعيين ان هذا الوضع سيصعب على المحقق العدلي اتخاذ القرارات في الدعوى التي يحقق فيها مع المحافظة على تجرده من أي ميل ".

ان المحكمة تنفي بهذا التعليل انتماء القاضي الى مجتمعه وتعرّضه تماما" كما باقي افراد المجتمع الى الاضرار الناتجة عن أي عمل يشكّل تعديا" على المصلحة والشأن العام. وهذه هي حالة تفجير مرفأ بيروت الذي تسبّب بأضرار شاملة ، أصابت كلّ المقيمين في لبنان. فالمصلحة الشخصية لا تتحقّق عندما لا تختلف مصلحة القاضي عن مصلحة كلّ المقيمين (Pascale Fombeur, Alexandre Lallet, «Fasc. 70-11: JUGEMENT . – Impartialité de la juridiction. – Prévention des conflits d'intérêts des juges. – Abstention et récusation» , JurisClasseur Justice administrative, n° 41.) في لبنان عامة وفي بيروت تحديدا"، خاصة وأن القاضي وكما نصت عليه المادة 20 من الدستور يصدر القرارات والاحكام "باسم الشعب اللبناني".

أما رفع يد القاضي لهذا السبب تحديدا" فهو يشكّل تطورا" خطيرا" على مستوى الوظيفة القضائية عامة حيث أنه يؤدي الى رفع يد القضاء عن كلّ القضايا التي تتعلّق بالشأن العام تحت ذريعة عدم الحيادية.

لا يسعنا إذن أمام ما تمّ تبيانه آنفا" إلّا نتساءل عن أي " بنيان قانوني" تشير اليه محكمة التمييز في قرارها عندما يتمّ التدخل في استقلالية القاضي الذاتية وترفع يد القضاء عن كلّ قضايا الشأن العام بالصورة التي أشرنا اليها؟

إنّ الأراء الواردة في مدوّنة نقاشات في الدستور تعبّر عن رأي كاتبها، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر المنظمة العربية للقانون الدستوري أو منظمة كونراد أديناور أو أي مساهم آخر في المدوّنة.

التعليقات

 

اترك تعليقاً

سيتم مراجعة تعليقك من قبل المحرر. لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

.لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني

.سيتم مراجعة تعليقك من قبل المحرر